دور العجزة .. مغاربة يعيشون على الهامش بعدما نفضتهم أسرهم

ماجدة بوعزة

أفنى كل منهم العمر فيما أفناه، دون التفكير في أن يكون مآله يوما دار عجزة أو خيرية تقيه نار التشرّد الملتهبة، التي تنال من السنوات الأخيرات لمن لم يجدوا قلوبا رحيمة تعطف على فئة لم تعد تقوى على تدبر أمرها بنفسها. نساء ورجال عاشوا تجربة مريرة بعدما تخلّى عنهم الأبناء ورافقهم الحظ العاثر، ليصبحوا بذلك مادة للدراسة والتحليل، وأرقاما تتزايد في السجلات والدراسات كل سنة أكثر من التي سبقتها.

نتيجة الحقد أحيانا يتشردون

بعد فترة شباب متهورة قرّر خلالها التخلّي عن أبنائه والبحث عن حياة خالية من المسؤوليات، هرِم ”عبد الله” وهرمت معه ذاكرته، وأصيب بالزهايمر، ليصبح في حاجة لرعاية مشددة تحمّل القائم على رعايته مسؤولية أكبر من تلك التي تهرّب منها في صغره.

بحث في أيامه الأولى في المعاناة مع المرض عن أبنائه بعد فراق طويل كان هو سبباً له، آملاً منهم تناسي الماضي والصفح عن أخطائه واحتضان أب لم يعد يبعده عن درجة الزهايمر القصوى سوى مراحل قليلة.

كان رد الفعل غير المتوقع من قبل الأبناء قاسيا بنفس درجة قسوة والدهم عليهم في الماضي، فقد رفضوه ورفضوا معه ذكريات أليمة تختزنها قسمات وجهه الذابل، فكان مصيره أن بعثوا به لأقرب مصلحة تُعنى بالمتشردين والمتخلى عنهم، تلك التابعة للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية بالرباط، التي تأويه إلى الآن بعدما رفضته مجموعة من الخيريات ودور العجزة الأخرى كما يؤكد مسؤول داخل المصلحة.

لم يُسمح لنا بتصوير ”عبد الله” أو غيره من القاطنين تخوفاً من رد فعل الأبناء والعائلات، وكذلك لكون القاطنين الحاليين لا يتمتعون بصحة عقلية جيدة تمكنهم من قبول أو رفض التقاط الصور.

هي حكاية تشبه غيرها في كثير من التفاصيل، فالمتواجدون بدور العجزة ليسوا جميعا كهولا قطع رحمهم من العالم، بل في نفس المدن التي يقطنون خيرياتها، تقطن أسرهم وأبناؤهم الذين لم يتحملوا عبئ رعاية العجوز الذي يتطلب جهدا ووقتا.

أعداد المسنين المغاربة في تزايد

وفقا لآخر الإحصائيات التي أجرتها المندوبية السامية للتخطيط، فقد شهدت السنوات الأخيرة ارتفاعًا في عدد المسنين بالمغرب، إذ وصل عددهم إلى ما يقارب ثلاثة مليون مسن، بعدما كان عددهم 833 ألف سنة 1960، ممّا يعني أن الزيادة السنوية تقدّر بنسبة 2.4 في المئة، أي تتعدى الزيادة التي شهدها النمو الديمغرافي إجمالا، والتي ظلت في حدود 2 في المئة.

وتوقعت المندوبية أن يصل عدد المسنين إلى 10 ملايين مسن في أفق 2050، بمعدل نمو سنوي يعادل 3.3 في المائة، مقابل 0.6 في المائة لمجموع السكان، وهو ما سيؤثر على التركيبة الديمغرافية للمغاربة.

ونتيجة لتغيير الهرم السكاني، فإن معدل عبئ المرضى على الصعيد الوطني تغير ليبلغ 67.8 بالمئة، ليصل إلى 75.8 لدى الأشخاص المسنين البالغين أكثر من 75 سنة، وأن أكثر من 58.9 بالمئة من كبار السن، يعانون على الأقل من مرض مزمن.

يشار إلى أن التقرير الأخير للأمم المتحدة عن السكان كشف أن عدد المسنين في العالم يتزايد بمعدل أسرع من أي فئة عمرية أخرى٬ ففي أفق سنة 2050، ستتخطى هذه الفئة في العالم فئة الأطفال دون سن الخامسة عشرة لأول مرة.

بتزايد المسنين تتزايد احتياجاتهم

حسب إحصائيات التعاون الوطني، التابع للقطاع الوصي على الجمعيات المشرفة على مؤسسات الرعاية الاجتماعية، الخاصة بالأشخاص المسنين، فإن عدد نزلاء دور رعاية الأشخاص المسنين المنتمين إلى مؤسسات حكومية، وصل سنة 2013 إلى 3500 نزيلا، موزعين على 50 مأوى وخيرية، مسجلين بذلك ارتفاعا مقارنة مع سنة 2011، حيثُ كان عددهم عندها يصل إلى 3224 نزيلا، 50.5 بالمئة منهم نساء.

وفي سنة 2013، قام المجلس الوطني لحقوق الإنسان ببحث ميداني حول دور العجزة بالمغرب، وخرج بخلاصات كانت أغلبها تنتقد سوء المعاملة، والحالة المزرية للتغذية والمراكز الصحية في دور العجزة، التي تبقى تابعة لإدارة التعاون الوطني، التابعة بدورها لوزارة التنمية الاجتماعية والتضامن والمرأة.

مجتمع رافض رغم الظروف والمسببات

تدين شريحة واسعة من المجتمع المغربي فكرة إرسال الآباء المسنين لدور العجزة، لما يتضمنه هذا الفعل من حمولات ودلالات إجتماعية سلبية، باعتبارها مخالفة لتعاليم الإسلام الذي يوصي بالإحسان إلى الوالدين، ومنافية للذوق الأخلاقي والقيمي العام. فكرة تعبر عنها حسب الباحث السوسيولوجي مولود أمغار، مجموعة من الدراسات التي أكدت أن فئات كثيرة ترى في التخلي عن الأباء أو إرسالهم إلى دور العجزة أمرا مرفوضا، بحيث ينظر إلى دور العجزة كمؤسسة عقابية، المرسَل إليها قد يكون معاقبا على ذنب أو معصية ارتكبها في حياته.

ويرى مولود أمغار أن واقع التخلي عن الآباء في مجتمعنا لا يمكن إعتباره أمرا عاديا، لأنه واقع متشكل خارج عن إرادة الأفراد، تتحكم فيه مجموعة من الحتميات الاجتماعية، منها ما يساعد في تأخير تنامي الظاهرة ومنها ما يساهم في حصول العكس.

ويؤكد الباحث السوسيولوجي أن المؤسسة الدينية في مجتمعنا، لازالت تلعب دورا مهما، في إدانة هذه الظاهرة، لأن المفاهيم القيمية المؤطرة للعلاقة بين الآباء والأبناء، على الرغم من التغيّرات التي تعرفها منظومة القيم المغربية لازالت تضع (مرضي الوالدين) في أعلى هرم الناجحين اجتماعيا، نظرا لما يحمله هذا الوصف من اعتبارات دينية وثقافية.

وعن العوامل المساهمة في التخلي عن المسنين، فيرى مولود أمغار أنها تعود إلى ثلاثة عوامل أساسية، أولها التحوّلات الهيكلية التي عرفتها الأسرة المغربية، إثر الانتقال من نمط عيش تقليدي إلى نمط عيش حضري، أثرت على نمط الأسرة المغربية، التي انتقلت من أسرة ممتدة إلى أسرة نووية، مما ساهم بشكل تدريجي في انكماش دورها في عملية الإنتاج الاجتماعية وحصر وظائفها.

وتنضاف الوضعية الاقتصادية الصعبة للأسرة المغربية والعامل الديمغرافي كعناصر تحليلية لتفسير الظاهرة، فالأسرة التي تعيش في ظل غياب التغطية الصحية والضمان الاجتماعي، والتي يصبح المرض بالنسبة لها جزء من المعاناة اليومية. كل هذا يجعل الكيفية التي تبنى بها الشروط الاجتماعية والاقتصادية، موضحة للطرد الاجتماعي الذي تتعرض له هذه الفئة.

وتظل ظاهرة التخلي عن المسنين أو تشردهم في تزايد مهما كان طفيفا، ليبقى السؤال عن مآلهم ومآل الظاهرة التي تهددهم منوطا بالتساؤل عن كيفية الحد من هذا الواقع، فهل سيكون الخطاب العاطفي والأخلاقي والتحليلات السوسيولوجية كافية للحيلولة دون تفاقمها؟ وهل جهود الدولة والمجتمع المدني الحالية كافية لوقاية شريحة لم تعد تقوى على الاعتناء بنفسها؟

المصدر : هسبريس




شاهد أيضا