الدكتور لشكر يكتب .. صرح خبير أن !!

انتقلت الدولة الحديثة إلى وضعية أضحت معها في حاجة كبرى إلى خبراء في مجالات عديدة لإنضاج قرارها.  ولأن للخبراء سلطتهم وشرعيتهم تلجأ إليهم عدد من المنابر الإعلامية لتفسير وضعية اقتصادية أو سياسية ما. هذه الوضعية جعلت من الخبرة وسيلة للوجاهة والمال والسلطة عند أنصاف الخبراء أو الخبراء الأدعياء.. من هنا بدأ التسويق بشكل مجاني لمدعين ينتحلون صفات بدون معايير واضحة.. فأينما وليت وجهك يقدم لك الإعلام جملته الشهيرة، صرح الخبير في كذا .. أن.. ، أو يرى المفكر، أو المؤرخ، والدكتور، البروفيسور، الباحث، الشاعر، المايسترو، والفنان…

داعية لا يحفظ القرآن، وناقد للتراث يخطئ في قراءة النصوص.. خبير لا يعرف له جدول تنقيط معين، ولا متى تم اعتماده ومتى انتهى الإعتماد.. وخبير في الشؤون الإفريقية لم يسبق له أن زار المنطقة التي يتحدث عنها، وليس له أدنى معرفة أنثروبولوجية بثقافتها وأعراقها وعاداتها.. ومدرس للفلسفة يتقاضى أجرا ولا يعرف له موقف معلوم من قضية أو إشكالية ما فأضحى فيلسوفا. وانتهازي لا يصدقه أحد لكنه يستدعى كمناضل.. وباحث في كذا.. لا يعرف كم من المقالات العلمية له في موضوع بحثه.. وشاعر ينصب المبتدأ ويغني للحلزون يجزر الموز.. وأما المايسترو فلا تحتاج إلى سنوات من التحصيل المعرفي أو تراكم في الممارسة الميدانية، بل فقط أن تكون رئيسا لمجموعة لايعرف لها تاريخ أو سجل.. وأما العالم فأصبحت كنار على علم.. بل لم تعد تكفي بعضهم فأضحى يسمي نفسه علامة!

في نظام التفاهة يصعب الوقوف ضد أمواج الانتحال والتدليس وادعاء الألقاب.  فالسباق محموم على “السجل التجاري” وترسيم الألقاب، سباق على الوجاهة والسلطة والمال. فأضحت القنوات والمختبرات مشاتل “لأشباه الخبراء”، الذين يحاولون إضفاء الشرعية على أوضاع اقتصادية أو فنية أو اجتماعية مهيمنة والتعمية على تجاوزاتها. فمنتحل صفة الخبير أو المفكر، يدفع له لكي يفكر بطريقة معينة كما قال إدوارد سعيد ذات يوم. لذلك، فلا عجب أن تراه يشكك في ظاهرة التغير المناخي الناجمة أساساً عن الصناعات الرأسمالية الملوثة أو يتغاضى عنها إن كان منتحلا لصفة فنان أو داعية…

في نظام التفاهة حسب دونو لا مجال لتعميق التفكير والتأمل بل قد يصبح التفكير بعمق سبة في وجه ممارسيه، إذ أن سلطة التقنوية والتسطيح والتنميط تعلو فوق كل الأنماط الأخرى…لقد صرنا أمام وضعية يتم فيها تفريخ حملة شواهد بلا معنى، وفي أحسن الأحوال فنيين متمكنين من المعارف التقنية والعملية، لكنهم فراغ فكرياً وأيديولوجياً، بل عاجزون عن رسم أفق أو معنى للوجود الإنساني..

السعي وراء الألقاب بدون استحقاق أو معيار آفة مجتمعية، فرضتها أمراض وعقد نفسية وشروط اجتماعية تتسم بالهشاشة.. ندرة الشغل، وقلة الموارد، والإكراهات المعيشية اليومية. والعجز عن قبول تحدي التكوين العلمي المستمر ثم حب الشهرة والنجومية… كلها عوامل تتظافر مع غيرها، لتجعل من نكرات يقفزون على خشبة المسرح والحياة، ويقدمون كخبراء أو مختصين.. فيصدقهم عامة الناس. والكوميديا السوداء أن يتكرر قفزهم على الخشبة فيصدقوا أنفسهم أنهم خبراء…

وإلى أن يصرح منتحل بأمر ما .. كل خبرة وأنتم بألف خير!