صدر عن دار القلم بالرباط كتاب يتناول موضوع الخبرة من خلال سيرة خبير دولي، ويقع الكتاب في أزيد من 330 ص. حيث يجد القارئ بين دفتي هذا الكتاب عملا بيوغرافيا من نوع خاص، ليس فقط من حيث خصوصية تجربة الحياة التي تم سرد أشواطها، ولا من حيث نوعية الموضوع الذي تدور حوله مجمل أحداثها (الخبرة ومشاريع التنمية)، ولا من حيث القيمة الدولية للخبير الذي يتم التعريف بمسار تجربته المهنية الممتدة على مسافة زمنية جاوزت الأربعة عقود؛ وإنما أساسا من حيث منهجية بناء هذا العمل، وكيفية إعداد مادته للتحرير، خاصة عندما يكون لها ارتباط وثيق بالتقاليد المنهجية للعلوم الإنسانية، وضمنها طبعا الكتابة البيوغرافية، التي نعتبر أن هذا العمل ينتمي إليها.
لقد استغرق إنجاز هذا العمل زهاء سنتين من التفاعل والتبادل بين أطراف ثلاثة ساهمت في تحريره، من أجل إعداد مادة حواراته الأولية، ومن أجل تفريغها ونقلها إلى المستوى الأول من الكتابة المبنية، ومن أجل مراجعة مادتها واستكمالها، والعمل على نقلها إلى المستوى الثاني من الكتابة المنظمة، ذات الخصائص اللغوية والمعرفية المناسبة لموضوعها، ومن أجل المزيد من تدقيق أحداثها ولحظاتها ومعطياتها، واستكمال ما غاب منها خلال المرحلة الأولى والثانية من الصياغة، بغاية الارتقاء بها إلى مستوى ثالث من الكتابة يليق بحقل الانتساب المعرفي الذي تدعيه (البيوغرافيا).
طبعا، ليست تجربة الكتابة هذه فريدة أو غير مسبوقة في العالم العربي، ذلك أن عالم السير الذاتية والغيرية، والكتابة البيوغرافية، مليء بالتجارب الكلاسيكية منها والمعاصرة، ابتداءً بأدب المناقب، مرورا بالسير الذاتية لبعض الأدباء والمفكرين، وصولا إلى السير العلمية والمهنية، وتجارب الحياة المتنوعة، بما فيها تلك العادية أو الاستثنائية، مما أولته الكتابة الأنثروبولوجية بالغ العناية، حينما عرّفت بمسارات حياة بعض عامة الناس قبل خاصتهم، من بين رجالهم أو نسائهم.. غير أن هذه السيرة تحمل بعض التميز، من حيث موضوعها (عالم الخبرة والخبراء)، وما يستلزمه الحديث في هذا الباب من حرص على مراعاة الضوابط العلمية والأخلاقية المتصلة بتقديم معطيات ومادة الكتابة، حيث كان المعني بالسيرة (جوزيف ثابت) شريكا حريصا على حسن توثيق مسار التجربة، والعناية بلغتها التقنية، والأطراف المعنية بمشاريعها، من أشخاص ومؤسسات، بقدر حرصه، وحرصنا جميعا، على التعبير عن آرائه ومواقفه إزاء العديد من أحداثها، بما تطلّبه ذلك أحيانا كثيرة من شجاعة، غايته من ورائها إطلاع القارئ العربي على أبعاد عالم الخبرة الخفية، ومناطق ظلها الكثيفة؛ وبما اقتضاه كل ذلك من انضباط معرفي وأخلاقي، نتمنى أن يكون الكتاب قد نجح في التأليف يبن أوجهه العديدة.
وإذا كان “الخبير الدولي” يحيل في متخيلنا على كفاءات علمية ومهنية في ميادين شتى أنتجها العالم الغربي، نتمثل شخوصها أساسا انطلاقا من أسماء تنتمي إلى البلدان المتقدمة، تلك التي تطورت بها حقول المعرفة كافة، وترسخت بها تقاليد تقديم الخبرة والاستشارة العلمية، وتوسعت دائرة “مراكز البحث والدراسة” و”بيوت التفكير” بأرجائها؛ فإن الخبراء الدوليين، ممن لا ينتمون إلى بلدان العالم الغربي، ليسوا بالندرة التي نتمثل بها هذه الصفة، ولا بالمرتبة التابعة التي قد يوحي بها انتماؤهم إلى بلدان أخرى من العالم الثالث، من الهند وباكستان، أو من العالم العربي والقارة الإفريقية، أو من المنطقة الأمريكية اللاتينية، وإن كان الكثير منهم قد انضموا إلى صفوف المنظمات والهيئات الدولية العالمية، على غرار ما يجري عليه الحال من استقطاب للكفاءات في سائر الميادين والمجالات، وتجفيف البلدان النامية من مواردها البشرية، كما الطبيعية.
فلا يخلو برنامج تلفزي أو ندوة أو تصريح حكومي من ذكر كلمة خبرة او خبير. إذ أن أغلب المؤسسات (عمومية/خاصة، محلية/دولية) تلجأ إلى “الخبرة” كإجراء عمليّ، وسيرورة من العمليات التقنية، والميدانية تهدف بحسب ما هو معلن إلى تحقيق التنمية. ويؤطر هذا الهدف وهذه الإجراءات رؤية فلسفية ومعرفة سوسيو-اقتصادية. وإذا كان هناك من شيء تتفق حوله جل الدراسات والأبحاث حول موضوع التنمية فهو علاقتها بالبحث العلمي، فجلّ الأبحاث والدراسات و”الخبرات”، هي تأكيد على هذه النقطة تحديدا، وعليه فالارتباط الجوهري بين البحث العلمي الجامعي، والخبرات من جهة، وتحقيق التنمية من جهة أخرى، هو القاطرة التي ينبغي النظر إليها بإمعان وإلى سكتها ووجهتها. إذ تمثل التنمية نقطة التقاء وتجاذب بين المؤسسات الجامعية، والمؤسسات الراعية والممولة للخبرة.
وإذا كان موضوع الخبرة قد تم تناوله في الدول الغربية قبل عشرات السنين، وبالضبط منتصف الستينات، وتحديدا بعد تحول هذه المجتمعات نحو ترسيخ قيم “دولة الرفاه”، فإنه بالمقابل هناك كتابات ضئيلة جدا حول الموضوع باللغة العربية. بل إن هناك من يوزع صفة “الخبير” بسخاء على كل مهتم بموضوع ما، دون تحديد لأي معيار مفاهيمي له، وهناك من يلصق صفة الخبير بكل شخص يقوم بمهمة تقنية محددة، الشيء الذي يعبر عن ضبابية كبيرة في الاستعمال.
هذا وقد تمت مناقشة الموضوع لأول مرة عربيا وبجامعة مغربية، في إطار أطروحة جامعية لنيل شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع، تحت عنوان “سوسيولوجيا الخبرة والخبراء…”، بجامعة بن طفيل سنة 2021. وامتدادا لنفس الانشغال المعرفي وبالتعاون مع أحد أبرز أساتذة السوسيولوجيا المغربية (د عمار حمداش). سيحرص الباحثان على إخراج هذا المنتج المعرفي، الغاية منه، التعريف بمسار أحد الخبراء الدوليين، وقد يبدو من الوهلة الأولى أن الكتاب يجيب عن التساؤل الذي يطرحه بعض الباحثين: “كيف يصبح الخبير خبيرا؟”، وإن كان ذلك واردا عبر عدد من مفاصل هذا الكتاب؛ عبر استنطاق خلاصات تجربة هذا الخبير الدولي.
إنها مساهمة يرجى أن تسعف القارئ المهتم، والباحث المختص على السواء، باستجلاء بعض ما يقبع في الظل، ولا تسلط عليه الأضواء إلا من خلال الدراسات المتخصصة في هذا الباب، كما تفعل ذلك سوسيولوجيا الخبرة والخبراء… تدعو لتأمل عالم الخبرة باعتبارها واقعة متعددة الأبعاد، تحتاج إلى مقاربات العلوم الإنسانية والاجتماعية، بما هي واقعة اجتماعية وثقافية تحتاج إلى المعرفة السوسيولوجية والأنثروبولوجية، وبما هي واقعة اقتصادية تحتاج إلى دراسة وتحليل مفعولها الاقتصادي، وبما هي واقعة سياسية تحتاج إلى قراءة منطلقاتها ومراميها، وبما هي واقعة أخلاقية وإنسانية تحتاج إلى تأمل وظيفتها وكينونتها.. نأمل أن يحقق هذا العمل بعض المقصود منه والتفاعل المنتظر بخصوصه.
- الصورة: ذ علم الاجتماع عمار حمداش، وعن يساره نورالدين لشكر، باحث في سوسيولوجيا الخبرة.