الهْندية.. “ديسيرْ” الفقراء الذي قضت عليه الحشرة القرمزية

عبد الرزاق بوتمزّار –K36

حتى الأمسِ القريب، ظلت “الهْندية” (التين الشّوكي) المعروفة في الأوساط الشّعبية في المغرب بـ”الزّعبول” أو “كرموس النصارى”، بلا منازع “فاكهة الفقراء”، التي لا يكاد يمرّ فصل الصّيف حتى يكون معظم المغاربة (فقراءَ وميسورين) قد بلعوا من حبّاتها الكثير. وكان من المشاهد المألوفة رؤية بائعي “الهْندية” وهم يقفون بعرباتهم على نواصي الأرصفة، وقد تحلّق حولهم الناس ليستمتعوا بقضم “حبّات” طرية وطازجة من هذه الفاكهة “البْنينة” والرّخيصة في آن. لكنْ ابتداءً من أواخر 2014 ستظهر حشرة فتّاكة شرعت -تدريجياً- في “قضم” نبتة الصبّار بأكملها على امتداد ربوع المغرب، مُعلنةً بداية نهاية “ديسيرْ” الفقراء، مُكبّدة المزارعين خسائرَ ماديةً جسيمة وحارمةً فئاتٍ واسعةً من العاطلين من فرصة موسمية لكسب بعض الرّزق الحلال.

وتستهدف الحشرة القرمزية (الكوشني) نبتة الصبّار على الخصوص، إذ تعمل على امتصاص سوائلها، مُتسبّبة في جفافها وموتها. وقد تمّ الإبلاغ لأول مرة عن ظهور هذه الحشرة، التي لا تُشكّل بحسب الخبراء، أيّ خطر على صحّة الإنسان أو الحيوان، في منطقة “سيدي بنّور”، قبل أن تمتدّ إلى كلّ جهات المملكة، حاصدة في هجمتها الشّرسة الأخضر واليابس.

ما الحشرة القرمزية؟

 

هي حشرة بلون أحمرَ داكن بالنظر إلى إفرازها سائل “الكرمن”. وموطنها الأصلي الغاباتُ الاستوائية وشبه الاستوائية في أمريكا والمكسيك. وهي حشرة قشرية رخوة ذات شكل بيضوي، لذكورها أجنحة. وبعد تزاوجها مع الإناث، تضع هذه الأخيرة بيضها، الذي يتحول بسرعة إلى “حُوريات” دقيقة تُفرز مادّة شمعية بيضاء على أجسامها بهدف حمايتها من فقدان الماء ووقايتها من التعرّض للشّمس المُفرطة.

وتظهر الحشرة القرمزية فوق نبات الصبّار على هيأة كُومة بيضاءَ شبيهةٍ بالقطن. وتتحرّك إلى حافة “لوحة” الصبّار، حتى تُحرّك الرّياح خيوط الشّمع وتحملها إلى نبتة أخرى، وهكذا تتّسع رقعة “الهلاك”. ورغم أن تطايُر الذكور المُجنَّحة يُزعج السكّان، فإنها لا تُشكّل أدنى خطر، سواء على الإنسان أو الحيوان.

تتسبّب الحشرة القرمزية، المعروفة في أوساط الفلاحين المغاربة بـ”الكوشني”، في خسائرَ فادحة في الإنتاج، لأنها تقتات على نبتة الصبّار عبر امتصاص سوائلها، ما يُؤدّي إلى جفافها وموتها في حالة الإصابة الشّديدة، وإن كان تناوُل فاكهة نبتة الصبّار المصابة بهذه الحشرة لا يُشكّل أدنى ضرر صحّي للمستهلك، كما أسلفنا.


نظرية المؤامرة..

 

في ظلّ تزامُن ظهور الحشرة القرمزية مع الاهتمام “الرّسمي” بنبتة الصبّار، من خلال وضعها في صلب مخطّطات وإستراتيجيات لاستخراج زيوت ومستحضرات تجميل منها، إذ ظهرت بالفعل العديد من “التعاونيات” و”الشّركات” لهذا الغرض، لم تتأخّر فئات عريضة من المغاربة في تبنّي نظرية “المؤامرة”. وذهب مُتبنّو هذه النظرية إلى أنه تمّ نشر هذا المرض “عمداً” للقضاء على “فاكهة الفقراء”، ليتمّ استبدالها ببذور جديدة، كما كان الشّأن مع البطيخ الأحمر، مثلا.

 وذهب أحدهم في تعليقه على موضوع يتناول الظاهرة إلى أنّ “القضاء على النّبتة كان مقصوداً عن طريق أعوان السّلطة في البوادي لصالح لوبي الضّيعات الكبرى”. وذهب آخر إلى أنه “تمّ القضاء على الصبّار لغاية في نفس لوبيات الفلاحة قصد زراعته في البيوت البلاستيكية وبيعه بأثمنة خالية”. وعلّق ثالث “بين ليلة وضحاها اكتشفوا أنّ الهْندية تُستعمل في موادّ التجميل وتُدرّ أموالا طائلة… منذ سنوات والفقراء يأكلون الهندية بثمن في المتناول. لا يوجد شيء للفقراء إلا ووضعوا أيديهم عليه”.

وكتب آخر أنه “ليست هناك أية رغبة حقيقية في القضاء على هذه الحشرة. كما أن حقول الصبّار تضرّرت بالكامل، وكلّ حديث عن محاربة الحشرة القرمزية وتحقيق نتائج هو كذب وبهتان.. لقد فات الأوان، بسبب التماطل والتسويف والبيروقراطية والعجز.. عشرات الآلاف من الأسَر ستفقد مورداً مُهمّاً للرّزق والاستهلاك، ما يعني المزيد من النزوح نحو المدن.. والذين سيُنتجون هذه الفاكهة من صبّار لا يتأثر بالحشرة القرمزية سيبيعونه بأثمنة خيالية، وهذا هو الهدف”.

وذهب آخر بعيداً في نظرية المؤامرة، إذ كتب في تعليق له أن “هذه الحشرة لم تنتشر في المغرب بمُجرّد صدفة، بل كان ذلك من تدبير أعداء المغرب اقتصادياً، خاصة من الناحية الفلاحية، إذ إن المغرب في السّنوات الأخيرة زرع آلاف الهكتارات من الصبّار وقام أيضا ببناء مصانع الصبّار في الجنوب لاستخراج الزّيوت وغيرها من مُشتقّات الصبّار. لكنّ أعداء المغرب، سواء في الدّاخل أو الخارج، كسروا هذا الطموح بنشر هذه الحشرة، التي أهلكت الصبّار في المغرب كله.. كان على الجهات المسؤولة أن تقوم ببحث عميق للوصول إلى مُدبّري هذه الجريمة”.

تحرّك وزارة الفلاحة

 

لم تقف الجهات الوصية على قطاع الفلاحة أمام هذا الوضع المُقلق مكتوفة الأيدي، بل سارعت، عبر وزارة الفلاحة، منذ 2016، إلى تبنّي “خطة طوارئ” بغرض مواجهة هذه الحشرة المُدمّرة، موازاةً مع الاعتماد على المكافحة البيولوجية واقتلاع النباتات الموبوءة ودفنها. كما نجح باحثون زراعيون مغاربة في تحديد ثمانية أصناف من الصبّار تتميز بمقاومتها العالية لحشرة “الكوشني” القاتلة.

 

وركّز المغرب مجهوداته لمواجهة الحشرة القرمزية بكلّ الطرق الممكنة، فإضافة إلى الطرق البيولوجية والمُبيدات الحيوية، يراهن القائمون على الشّأن الفلاحي على أنواع الصبّار المقاومة لـ”الكوشني”. وفي هذا الإطار، يعمل المكتب الوطني للسّلامة الصحّية للمنتجات الغذائية “أونسا”، منذ سنوات، على محاصرة هذه الحشرة ومنع انتشارها، سواء بتقنييها أو بتوعية المزارعين وتدريبهم وتزويدهم بالوسائل اللازمة لذلك. ويعمل المكتب على رصد وتتبّع حقول الصبار واقتلاع النباتات الموبوءة، في حال فشل المعالجة الكيميائية في تحييد الخطر.

وتمّ استثمار أزيد من 500 مليون درهم لتطوير سلسلة الصبّار عبر التراب الوطني، وبلغت المساحة المزروعة منه، بحسب معطيات وزارة الزراعة، 170 ألف هكتار قبل نهاية مخطط “المغرب الأخضر” (2020 -2008). وقد أسهم تطوير هذه الزّراعة، بحسب المصدر ذاته، في تحسين مداخل السّاكنة القروية بين 10 آلاف و2000 ألف درهم.

مُؤشّرات إيجابية لكنْ..

 

رغم أنه ظهرت في العامين الماضيَين بعضُ المُؤشّرات الإيجابية على أن الأمور بدأت تسير في اتجاه “تعافي” نبتة الصبّار من هذا الهجوم الفتّاك من حشرة غامضة ومُخيفة، فإنّ المغاربة ما زالوا ينتظرون ظهور نتائجَ ملموسة على أرض الواقع، من خلال تراجع أثمنة “ديسيرْ الفقراء” وعودة بائعيها بأعداد أكبرَ ممّا نعاينه في شوارع مدننا حالياً، حينئذ فقط يمكننا الاطمئنان إلى أنّ “الهْندية” قد استعادت بالفعل وصفها القديم “فاكهة الفقراء”.

 

 




شاهد أيضا